فصل: تفسير الآيات (136- 141):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (131- 135):

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)}
{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} يعني أهل التوراة والإنجيل وسائر الكتب المتقدمة على الإسلام {وَإِيَّاكُم} يا أهل القرآن في كتابكم {أَنِ اتقوا الله} أي وحّدوا الله وأطيعوا ولا تشركوا به شيئاً {وَإِن تَكْفُرُواْْ} بما أوصاكم الله به {وَكَانَ الله غَنِيّاً} عن جميع خلقه غير محتاج إلى شيء ممّا في ايديهم.
وحقيقية الغنيّ عند أصحاب الصفات من له غنى.
والغنى هو القدرة على ما يريد، والغنيّ القادر على ما يريد، ثم ينظر فإن كان قادراً على وصف الحاجة عليه وَسَمْنَاهُ بذلك، وإن كان الوصف بالحاجة عليه لم يصفه به، والفقر العجز عن ذلك وعدمه. وإلى هذا ذهب المعتزلة.
وقال الجبائي: إن معنى الوصف لله بإنه غني هو أنّه لا تصل إليه المنافع والمضار، ولا يجوز عليه اللذات والسرور والآلام، والأول أصوب بذلك في الشاهد والغائب، وإطلاق المسلمين بعضهم لبعض إنه غني وفقير، والله اعلم.
{وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً}.
الضحاك عن ابن عباس: يعني دافعاً مجيراً.
عكرمة عن ابن عباس: يعني شهيداً {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} فيميتكم يعني الكفار {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} يعنى بغيركم خيراً منكم وأطوع {وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً} أي مستطيعاً على ذلك.
القادر والقدير عند أصحاب الصفات من له قدرة قائمة به بائن بها عن العاجز ثم يختلف القادرون بعد ذلك فمنهم من تكون قدرته حالّة في بعضه، ومنهم من تكون قدرته غير موصوفة بالحلول، والقدرة هي التي يكون بها الفعل من غير ان يموت بموته ولا يموت ويعود للعجز معها.
قالت المعتزلة: القادر هو الذي يجوز منه الفعل، والدليل على صحة ما قال أصحاب الصفات إن القادر رأيناه مخالفاً للمعاجز فيما قدر عليه وقد بطل أن يخالفه من أجل إنه صفة لموصوف يخالف سائر الموصوفين بها أو يخالف من أجل إنه محدث به خلاف العاجز فلما يتعلق هذه الأقسام صح إنه إنما يخالفه لأن له قدرة ليست للعاجز فلذلك قلنا إن القديم جل جلاله قادر بقدرة دون أن يكون قادر بنفسه.
{مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة}.
يقول: من كان يريد بعمله الذي فرضه الله بقدرته عرضاً من الدنيا ولايريد به الله أثابه الله عليه ما أحب الله من عرض الدنيا أو دفع عنه فيها ما أحب الله، وليس له في الآخرة من ثواب لأنه عمل لغير الله، ومن أراد بعمله الذي افترضه الله عز وجل عليه في الدنيا ثواب الآخرة أثابه الله عليه من عرض الدنيا ما أحب الله ودفع عنه ما أحب الله وجزاه في الآخرة الجنة بعمله.
وروى سليمان بن عمرو عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نيّة المؤمن خير من عمله، وعمل المنافق خير من نيته، وكل يعمل على نيته، وليس من مؤمن يعمل عملاً إلاّ صار في قلبه صورتان».
فإن كانت الأولى لله فلا يهده الآخرة {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ} الآية يعني كونوا قوامين بالشهادة ويعني بالقسط العدل.
قال ابن عباس: معناه: كونوا قوّامين بالعدل في الشهادة على من كانت {وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين} في الرحم فأقيموها عليهم لله تعالى، ولا تحابوا غنياً لغناه، ولا ترحموا فقيراً لفقره فذلك قوله تعالى: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا} منكم فهو يتولى ذلك منهم {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ} يعني أن تتركوا الحق وتتبرأوا.
قال الفراء: ويقال معناه: لاتتبعوا الذنوب لتعدلوا كما يقال: لا تتبعن هواك ليرضى عنك أي أنهاك عن هذا كيما يرضى ربّك.
ويقال: فلا تتبعوا الهوى فراراً من إقامة الشهادة {وَإِن تَلْوُواْ} باللسان فتحرفوا الشهادة لتبطلوا الحق {أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ} فتكتمونها ولاتقيمونها عند الحكام {فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من إقامتها وكتمانها {خَبِيراً} ويقال: معناه: وإن تلووا أي تدافعوا في إقامة الشهادة، يقال: لويت حقّه أي دافعته وبطلته.
وقال ابن عباس: هذه الآية في القاضي وليّه شدقه وإعراضه عن أحد الخصمين.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقم شهادته على ما كانت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجحد حقّاً هو عليه، وليؤدّه عفواً، ولا يلجئه إلى سلطان ليأخذ بها حقه، وأما رجل خاصم إليّ فقضيت له إلى أخيه بحق ليس هو له عليه، فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من جهنم».
مسألة في اللغة:
قال أهل المعاني: معنى القسط العدل، يقال أقسط الرجل يقسط إقساطاً إذا عدل وقسط يقسط قسوطاً إذ جار.
قال الله تعالى: {وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [الحجرات: 9] وقال تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15].
ويقال: قسط البعير يقسط قسطاً إذا يبست يده، ويد قسطاً أي يابسة، فكان أقسط معناه أقام الشيء على حقيقته في العدل، وكان معنى قسط أي خيار أي يبس الشيء وأفسد جهته المستقيمة.

.تفسير الآيات (136- 141):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)}
{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} الآية.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس بن كعب وسلام ابن اخت عبد الله بن سلام، وسلامة بن أخيه ويامين ابن يامين، فهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب. «أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك، وبموسى والتوراة، وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم» بل آمنوا بالله ورسوله محمد وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله «فقالوا: لا نفعل، فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} {والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ} يعني القرآن {والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ} يعني الكتب المتقدمة التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المتقدمة {وَمَن يَكْفُرْ بالله} إلى قوله: {ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} يعني خطأ خطأً بعيداً، فلما نزلت هذه الآية، قالوا: يا رسول الله فإنّا نؤمن بالله ورسوله وبالقرآن وبكلّ رسول وكتاب كان قبل القرآن والملائكة واليوم الآخر لانفرق بين أحد منهم كما فعلت اليهود والنصارى، ونحن له مسلمون فدخلوا في الإسلام».
وقال الضحاك: هي في اليهود والنصارى، ومعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا بموسى والتوراة وعيسى والإنجيل آمنوا بمحمد والقرآن.
وقيل: إنه ورد في اليهود خاصة، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا في وجه النهار آمنوا في آخر النهار، وذلك قوله تعالى: {وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار} [آل عمران: 72] الآية.
وقال أبو العالية وجمع من المفسرين: هذه الآية خطاب للمؤمنين وتأويله: يا أيها الذين آمنوا آمنوا أي أقيموا واثبتوا على الإيمان، وكقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم فإعلم إنه لا اله إلاّ الله أي اثبت على ما أنت عليه وكقوله: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 9] ومعناه: وعد الله الذين آمنوا على الإيمان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين هم في هذه القصة مغفرة وأجراً عظيماً، ويقال في الكلام للقائم: قم، وللقاعد: أُقعد، والمراد منه الاستدامة.
ويقال: أنها خطاب للمنافقين الذين أصروا التكذيب ومعناها: يا أيها الذين آمنوا في الملأ آمنوا في الخلاء، وقال آخرون: المراد منه الكفار يعني: يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى والطاغوت آمنوا بالله، ومعناه: إن كان لابد للإيمان يعني فالإيمان بالله تعالى ورسله والكتب أحق وأولى من الإيمان بما لا يضر ولاينفع ولا ينفق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت، والله أعلم.
ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب، فقال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} بموسى {ثُمَّ كَفَرُواْ} بموسى {ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ} بعد عزير بالمسيح وكفرت النصارى بما جاء به موسى وآمنوا بعيسى بن مريم {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} بمحمد وبما جاء به.
قتادة: هم اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة ثم كفروا وآمنت النصارى بالانجيل ثم كفرت وكفرهم هو تكذيبهم إياه، ثم ازدادوا كفراً بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد: ثم ازدادوا كفراً أي ماتوا عليه {لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ} ما أقاموا على ذلك ولا ليهدهم {سَبِيلاً} سبيل هدى.
وقال ابن عباس: يدخل في هذه الآية كل منافق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نحو ذكر ما في هذه الآية من الكلام على أهل القدر.
يقال لأهل القدر: خبرونا عن الكفار هل هداهم الله عز وجل إلى الإسلام؟ فإن قالوا: نعم. قيل كيف يجوز أن يقال إن الله هداهم وقد قال الله تعالى {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}؟ قيل: ومعناه إنه لايهديهم إلى طريق الجنة يقال لهم كيف يهديه إلى طريق الجنة وقد هداه عندك لأن من أصلك إن العبد إنما يدخل الجنة فمعناه أنه يدخل الجنّة لفعله ويدخل النار بفعله، وقد هداه إلى طريق الجنة بهدايته إلى الإسلام فكيف يصح هذا التأويل على أصلك؟
واعلم أنهم إذا ألزمهم الشيء، فقالوا في التأويل، فإذا فحصت عن تأويلهم بان لك فساد قولهم.
واعلم إن الله عز وجل قد بيّن لك إنه لايهديهم سبيلاً ليعلم العبد إنما يقال هُدي بالله عز وجل ويحرم الهدى بإراده الله عز وجل ثم لايكون لهم عاذر بنفي الهدى عنهم، ولا مزيلاً للحجة {بَشِّرِ المنافقين} نبّئهم يا محمّد {بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}.
قال الزجاج: بشّر أي اجعل في موضع بشارتك لهم العذاب الأليم، والعرب تقول: تحيتك الضرب، وعتابك السيف، أي تضع الضرب موضع التحية والسيف موضع العتاب.
وقال الشاعر:
وخيل قد دلفت لها بخيل ** تحية بينهم ضرب وجمع

ثم وصف المنافقين فقال: {الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَآءَ} أنصاراً وبطانة {مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة} يعني الرفد والمعونة والظهور على محمّد وأصحابه.
وقال الزجاج: العزة يعني المنعة والشدة والغلبة مأخوذ من قولهم: أرض عزاز أي صلبة لايفيد عليها شيء ويقال: إستعز على المريض إشتد وجعه، وقولهم يعز عليّ أي يشتد، وقولهم إذا عز الشيء لم يوجد فتأويله قد اشتد وجود وصف إن وجد {فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} أي القدرة لله جميعاً وهو سيد الأرباب. ثم قال: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ} يا معشر المسلمين بمكة {فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله} يعني القرآن {يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي يأخذوا في حديث غير الإستهزاء بمحمد وأصحابه والقرآن.
وذلك إن المنافقين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود فيستهزئون بالقرآن ويكذبون به ويحرفونه عن مواضعه فنهى الله تعالى المسلمين عن مجالستهم ومخالطتهم، والذي نزل في الكتاب قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68] الآية.
الضحاك عن ابن عباس: ودخل في هذه الآية كل محدث في الدين، وكل مبتدع إلى يوم القيامة.
الكلبي عن أبي صالح: صح هذا القول بقوله عز وجل وما على الذين يتقون الشرك والاستهزاء من حسابهم من شيء ولكن ذكرى أي ذكروهم وعظوهم بالقرآن لعلهم يتقون الاستهزاء بمحمّد والقرآن {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} إذا قعدتم عندهم فأنتم إذاً مثلهم {إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} {الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} أي ينتظرون بكم الدوائر يعني المنافقين {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله} يعني النصر والغنيمة {قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ} على دينكم فأعطونا من الغنيمة {وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} يعني دولة وظهوراً على المسلمين {قالوا} يعني المنافقين {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} ألم نخبركم بعزيمة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونطلعكم على سرّهم.
وقال أهل اللغة: ألم نستحوذ عليكم ويغلب عليكم قال: إستحوذ أي غلب.
وفي الحديث كان عمر أحوذنا أي غالب أمرنا في الحق.
وقال العجّاج: يحوذهن وله حوذى.
كما يحوذ الفئة الكميّ.
الكميّ. أي يغلب عليها ويجمعها، ويروى بالزاي فيهما.
وقال النحويون: استحوذ خرج على الأصل، فمن قال: حاذ يحوذ لم يقل إلاّ استحاذ يستحذ وإن كان أحوذ يحوذ كما قال بعضهم: أحوذت وأطّيبت بمعنى أحذتُ وأطبت. قال إستحوذ إستخرجه على الأصل {وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين} ونمنعكم منازلة المؤمنين {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة} يعني بين أهل الإيمان وأهل النفاق ثم يفصل بينهم {وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً}.
عكرمة والضحاك عن ابن عباس يعني حجة.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: ولن يجعل الله الكافرين على المؤمنين يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم سبيلاً يعني ظهوراً عليهم.
وقال علي رضي الله عنه: ولن يجعل الله الكافرين على المؤمنين في الآخرة، وفي هذه الآية دليل على أن المنافق ليس بمؤمن وليس الإيمان هو الإقرار فقط، اذ لو كان الإيمان هو الإقرار لكانوا بذلك هم مؤمنين.
وفيه دليل أيضاً على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأن القوم كانوا كاتمين اعتقادهم فأظهر الله عز وجل رسوله على اعتقادهم وكان ذلك حجة له عليهم إذ علموا إنه لايطلع على ضمائر القلوب إلا البارئ جل وعز.

.تفسير الآيات (142- 147):

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)}
{إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله} قد مرّ تفسيره.
{وَهُوَ خَادِعُهُمْ} أي يجازيهم جزاء خداعهم، وذلك أنهم على الصراط يعطون نوراً كما يعطي المؤمنين، فإذا مضوا على الصراط يسلبهم ذلك النور ويبقى المؤمنون ينظرون بنورهم فينادون المؤمنين {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} [الحديد: 13] فيناديهم الملائكة على الصراط {ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً} [الحديد: 13] وقد علموا أنهم لايستطيعون الرجوع فيشفق المؤمنون حينئذ من نورهم أن يطفئ فيقولون: {رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغفر لَنَآ إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8] {وَإِذَا قاموا} يعني تهيّأوا {قَامُواْ كسالى} يعني متثاقلين، يعني لايريدون بها وجه الله فإن رآهم أحد صلّوا وإلاّ انصرفوا ولم يصلّوا {يُرَآءُونَ الناس} يعني المؤمنين بالصلاة {وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً} ابن عباس والحسن: إنما قال ذلك لأنهم يصلونها رياء وسمعة ولو كانوا يريدون بذلك وجه الله عز وجل لكان ذلك كثيراً.
قتادة: إنما قلّ ذكر المنافقين لأن الله عز وجل لم يقبله وكما ذكر الله قليل وكلما قبل الله كثير {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك} أي مترددين متحيرين بين الكفر والإيمان {لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء} ليسوا من المؤمنين فيجب لهم ما يجب للمسلمين، فليسوا من الكفار فيؤخذ منهم ما يؤخذ من الكفار فلا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء.
القاسم بن طهمان عن قتادة: ماهم بمؤمنين مخلصين ولا بمشركين مصرحين بالشرك {وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} أي طريقاً إلى الهدى.
وذكر لنا ان نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يضرب مثلاً للمؤمن والمنافق والكافر كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر فوقع المؤمن فقطع ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر أن هلمّ إليّ فإني أخشى عليك وناداه المؤمن هلمَّ إلي فأن عندي الهدى وكفى له ما عنده، فما زال المنافق يتردد منهما حتّى أتى على أذى فعرفه فإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك.
وروى عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّما مثل المنافق مثل الشاة العايرة من الغنمين يبدي إلى هذه مرة وإلى هذه مرة لايدري أيهما يتبع».
ثم ذكر المؤمنين ونهاهم عن الإتيان بما أتى المنافقون.
فقال تعالى {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} يعني في أسفل برج من النار، والدُرك والدَرك لغتان مثل الطُعن والطَعن والنُهَر والنَهر واليُبس واليَبس.
قال عبد الله بن مسعود: الدرك الأسفل من النار توابيت مقفلة في النار تطبق عليهم {وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} عوناً.
عن عوف عن أبي المغيرة القواس عن عبد الله بن عمر قال: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة ثلة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون.
قال الثعلبي: وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى فأما أصحاب المائدة فقوله عز وجل {فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين} [المائدة: 115]، وأما آل فرعون فقوله تعالى: {أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [غافر: 46]، وأما المنافقون فقوله تعالى: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145].
{إِلاَّ الذين تَابُواْ} من النفاق {وَأَصْلَحُواْ} عملهم {واعتصموا بالله} أي وثقوا بالله {فأولئك مَعَ المؤمنين} على دينهم. قال الفراء: مع المؤمنين تفسيره من المؤمنين. قال القتيبي: حاد عن كلامهم غيظاً عليهم فقال: {فأولئك مع المؤمنين}، ولم يقل فأولئك هم المؤمنون {وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين} في الآخرة {أَجْراً عَظِيماً} وهي الجنة وإنما حذفت الياء من: يؤتي في الخط كما حذف في اللفظ لأن الياء سقطت من اللفظ لسكونها وسكون اللام في الله وكذلك قوله: {يَوْمَ يُنَادِ المناد} [ق: 41] حذفت الياء في الخط لهذه العلة وكذلك {سَنَدْعُ الزبانية} [العلق: 18] {يَوْمَ يَدْعُ الداع} [القمر: 6] قالوا: والياء هذه حذفت لالتقاء الساكنين.
وأما قوله: {مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64] حذفت لأن الكسرة دلت على الياء فحذفت لثقل الياء، وقد قيل حذفت الياء من المناد والدّاع لأنك تقول: داع ومناد حذفت اللام بها كما حذفت قبل دخول الألف واللام.
وأما قوله تعالى: {والليل إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] فحذفت الياء لأنها مابين آية ورؤس الآية يجوز فيها الحذف {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ} نعماه {وَآمَنْتُمْ} به وفي الآية تقديم، وتأخير، تقديرها ما يفعل الله بعذابكم ان آمنتم وشكرتم لأن الشكر لاينفع مع عدم الإيمان بالله والله تعالى عرف خلقه بفضله على ان تعذيبه عباده لايزيد في ملكه. وتركه عقوبتهم على افعالهم، لاينقص من سلطانه {وَكَانَ الله شَاكِراً} للقليل من اعمالكم {عَلِيماً} بإضعافها لكم إلى عشرة إلى سبعمائة ضعف.
قال أهل اللغة: أصل الشكر إظهار النعمة والتحدث بها. قال الله تعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] وذكر بعض أهل اللغة إن الشكر مأخوذ من قول العرب لغة شكور إذا كان يظهر سمنها على القليل من العلف فكان الله تعالى سمّى نفسه شاكراً إلا أنه يرضى من عباده بالقليل من العبادة، بعد رتبة التوحيد.
وقال بعض المعتزلة: إن الوصف لله بأنه شكور وشاكر على جهة المجاز لأن الشكر في الحقيقة هو الاعتراف بنعم المنعم فلما كان القديم تعالى ذكره مجازياً للمطيعين على طاعتهم سمي مجازاته إياهم عليها شكراً على التوسعة، وليس الحمد عنده هو الشكر لأن الحمد ضد الذم والشكر ضد الكفر، فيقال له: إن لم يجز أن يكون الباري تعالى شاكراً على الحقيقة لما ذكرته لم يجز أن يكون مثيباً، لأن المثيب من كافى غيره على نعمة قدمت إليه ابتداءً، وإلاّ لم يجزيه أن يكون شاكراً في الحقيقة، والشكر من الله تعالى الثواب.
ومن العباد الطاعة وحقيقة مقابلة الطاعة بغيرها، فإذا قابلت أوامر الله بطاعتك فقد شكرته وإذا قابلك الله طاعتك بثوابه فقد شكرك عليها.